الدستور و الوظيفة العمومية المحلية

في إطار تنظيم الدولة لمؤسساتها الكبرى وحرصا منها على حسن سير دواليبها، فإنها تولي أهمية كبرى للمرافق العمومية التي تعنى بأهم الخدمات المسداة منها والتي تشغل اكبر عدد ممكن من مواطنيها. و نظرا لهذه الأهمية فإن الاعتناء بالمرافق العمومية و تنظيمها يبلغ الدرجة الدستورية.

و مما لا خلاف فيه ان الدستور هو القانون الأعلى للدولة المبين لنظام الحكم فيها و المنظم لسلطاتها و العلاقة الرابطة بينها، كما هو الضامن لحقوق و حريات الأفراد داخلها.

من هنا تحتل الوظيفة العمومية المحلية باعتبارها قانونا، المكانة الدستورية من حيث التأطير و هي بهذا المعنى “جملة القواعد و المبادئ المتعلقة بالأعوان العاملين بأي عنوان كان بالجماعات المحلية و المؤطرة لعلاقتهم بها”[1].

كما أن الوظيفة العمومية المحلية ينظر لها دستوريا كمرفق عمومي فهي تمثل مرفقا عموميا إداريا بامتياز يتجسد في الموارد البشرية للإدارة المحلية أي مجموع الأعوان العموميين الذين تعود لهم مهمة تنظيم و تسيير الإدارة المحلية و إصدار القرارات الإدارية على المستوى المحلي. إذ أن الموارد البشرية هي جوهر الإدارة العمومية و عماد بناءها، فلا يتصور وجود إدارة دون أعوان يجسدون سيادة الدولة ككل.

و يمكن تعريف الإدارة العمومية بكونها مجموع الهياكل و الوسائل التي تتوفر فيها مؤشرات النشاط العام من تسيير لمصالح المرفق العام تحقيقا للمصلحة العامة مع التمتع بامتيازات السلطة العامة. و تظهر جليا في هذا الإطار الإدارة المحلية التي يجمع الفقه على أنها “مجموع الهياكل التابعة للدولة و المكلفة بتنفيذ سياساتها في مختلف الشؤون العامة.”[2]

و الإدارة المحلية هي إدارة لامركزية ترابية بالأساس أي هي “هيكل محلي أو جهوي مسير من قبل هيئة منتخبة محليا من طرف سكان رقعة ترابية محددة و يتخذ قراراته بإسمه”[3].

و هو ما يستنتج منه وجود مصالح محلية متميزة عن المصالح الوطنية في ظل تنظيم إداري لا ركزي أساسه توزيع الوظيفة الإدارية بين الإدارة المركزية و الجماعات المحلية.

و هذه الأخيرة هي صفة تمنح قانونا لجماعات تدير مرافق عمومية تتمتع بالشخصية المدنية و الاستقلال الإداري و المالي و هي مجسدة في البلدية و المجلس الجهوي.

لكن الملاحظ أن هذه الإدارة المحلية و رغم ما جاء بالدستور و القوانين الأساسية الخاصة بها من اعتراف لها بالاستقلالية، إلا إن هذه الاستقلالية غير مطبقة واقعا كما لا تمتد إلى النظام الأساسي للأعوان العاملين بها، بل انه من الواضح أن الوظيفة العمومية في تونس موحدة و لا خصوصية تذكر للأعوان العاملين بالجماعات المحلية. فجميع الموظفين العموميين في الدولة التونسية يخضعون لمبادئ و قواعد القانون العام و لأحكام المسؤولية الإدارية و تناط بعهدتهم خدمة الصالح العام على عكس ماهو سائد بقانون الشغل مثلا إذ هو جملة قواعد قانونية تنظم رابطة بين مؤجر و أجير خاضعين لأحكام القانون الخاص و المسؤولية المدنية و الهدف تحقيق المصلحة الخاصة.

من هنا وجب إبراز أهمية وجود وظيفة عمومية محلية تختص بالشأن المحلي و يديرها موظفون تابعون للجماعات المحلية و يخضعون لنظام أساسي خاص بهم يقع التنصيص على أهم مقوماته و مبادئه صلب نص الدستور.

إذ أن العلاقة بين الوظيفة العمومية المحلية و الدستور وثيقة الصلة او يجب أن تكون كذلك و هذا الرابط يحيلنا إلى بيان الأهمية النظرية التي يطرحها الدستور في علاقته بالوظيفة العمومية المحلية إذ انه يلاحظ غياب جدل فقهي و دراسات نظرية حول أهمية وجود وظيفة عمومية محلية مستقلة في تونس و مدى إمكانية إعمالها واقعا، مما يستوجب دراسات تفصيلة و توقعات مختلفة لايجابيات هذا النوع من الوظيفة العمومية و أثاره السلبية الممكنة أخذا بالاعتبار التوجيهات الفرنسية المقارنة.

و يمكن اعتماد التنظيم الفرنسي كمثال يرتكز على نظام تعدد الوظائف العمومية لا على وحدة الوظيفة العمومية كما هو الحال في التشريع التونسي منذ الاستقلال إلى اليوم، فقد عرفت فرنسا تطورات هامة في اتجاه تدارك الآثار السلبية فيما يتعلق بالتصرف في مواردها البشرية و صنفت الوظيفة العمومية إلى ثلاث أصناف خصص لكل منها نظام أساسي مستقل و أولها يهم أعوان الدولة و آخر الوظيفة العمومية الإستشفائية و الأكثر أهمية هو قانون 1984 و الذي يعنى بالوظيفة العمومية الإقليمية، مما يدل على منح المجال المحلي بفرنسا الخصوصية اللازمة و الاستقلالية المرجوة، رغم ما لحق هذا التنظيم من نقد فقهي شديد و رغم التخوفات مما يمكن أن يلحقه من إشكاليات.

و الدولة التونسية و لئن أخذت من نظيرتها الفرنسية و نهلت منها اغلب مبادئها التنظيمية إلا أنها لم تنسج على منوال نظام تعدد الوظائف العمومية المعمول به.

أما عن الأهمية العملية لهذا الموضوع فهي نابعة من واقع الوظيفة العمومية المحلية اليوم، إذ لا يوجد تنصيص صريح على وجودها في تونس سواء في دستور 1959 او في القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 و لا صلب دستور 2014، ولا وجود لنظام أساسي خاص بأعوان الجماعات المحلية. وقد اكتفت الدساتير بتكريس المبادئ الأساسية للوظيفة العمومية في مجملها. كما يبرز هذا الواقع الإشكاليات و النقائص المتعددة التي تطال الموارد البشرية و طرق التصرف فيها مما صير الإدارات العمومية و خاصة المحلية مواطن عجز و موقع إخلالات و تناقضات، و تزيد التبعية المفرطة للسلطة المركزية الأمر تعقيدا.

و تتجلى الأهمية التاريخية في صمود مؤسسة الوظيفة العمومية التونسية كتنظيم موحد، رغم تتالي ظهور النصوص القانونية المنظمة لها قبل الاستقلال (الأوامر العلية) و بعده بداية من سنة 1959 تاريخ صدور أول نظام أساسي عام، مرورا بالنظام الثاني لسنة 1968 وصولا إلى القانون الحالي لسنة 1983 و الذي نص المشرع صلبه صراحة على خضوع أعوان الجماعات المحلية لأحكامه مثل أعوان الدولة و مؤسساتها العمومية الإدارية.

و هي مؤسسة ذات قيمة دستورية هامة أخذت على كاهلها تنظيم المرافق العامة الأساسية للدولة و تسيير دواليبها الأساسية مع تجميع القواعد المنظمة لها في إطار واحد و التنصيص على مبادئها صلب الدستور.

إن مجمل هذه المصطلحات و الأهميات تحيلنا لطرح الإشكالية التالية:

كيف تتجلى الوظيفة العمومية في إطار الدستور واقعا و أفاقا ؟

و للإجابة على هذا الإشكال القانوني يستوجب بيان الواقع الذي تشهده الوظيفة العمومية المحلية اليوم في علاقتها بالدساتير التي عرفتها الدولة التونسية أي البحث في مدى تكريس الوظيفة العمومية المحلية التي تتراوح بين تأطير دستوري لمبادئ و قواعد الوظيفة الع المحلية كمرفق و كقانون و بين دسترة منقوصة لها. كما انه من الضروري بيان مبررات إعمال وظيفة عمومية محلية خاصة في ظل هذه المرحلة الحاسمة للبلاد التونسية مع وضع تصورات لما ينبغي أن تكون عليه الوظيفة العمومية المحلية مستقبلا.

و لتحليل كل هذه الأفكار سوف يقع التطرق في جزء أول إلى تكريس دستوري منقوص للوظيفة العمومية المحلية ثم التطرق في جزء ثان إلى التوجه نحو دعم التكريس الدستوري للوظيفة العمومية المحلية.

تكريس دستوري منقوص للوظيفة العمومية المحلية :
لئن حرصت النصوص الدستورية التونسية على تأطير الوظيفة العمومية المحلية باعتبارها مرفقا عموميا و قانونا داخليا للدولة (الفقرة 1) إلا انه تأطير رافقته عديد النقائص أبرزها غياب دسترة واضحة لقيام وظيفة ع محلية مستقلة بذاتها (فقرة 2).

تأطير دستوري للوظيفة العمومية المحلية:
يعد الدستور مصدرا أساسيا من مصادر الوظيفة العمومية بما فيها الوظيفة العمومية المحلية، و هو ما يمنح أغلب المبادئ و القواعد التي ترتكز عليها هذه الوظيفة المكانة الدستورية العليا المنبثقة مما يتمتع به الدستور من علوية.

و بالرجوع إلى الأحكام الواردة بدستور غرة جوان 1959 و القانون التأسيسي عدد 6 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011و المتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية و المعتبر بمثابة الدستور الصغير للجمهورية التونسية اثر الفترة التي عرفت بالانتقال الديمقراطي و إلى الدستور التونسي الجديد ل27 جانفي 2014، نجد تأطيرا هاما للوظيفة العمومية و منها الوظيفة العمومية المحلية و إن كان ضمنيا.

و يبرز هذا التاطير في التعامل مع الوظيفة العمومية المحلية أولا كمرفق عام، إذ تبنى المبادئ التي ترتكز عليها المرافق العمومية للدولة من مبادئ أساسية و أخرى فرعيةو يبرز هذا التأطير الدستوري للوظيفة العمومية المحلية أيضا عبر التنصيص الدستوري على القواعد التي تحكم الإدارات العمومية و منها الإدارات التابعة للجماعات المحلية.

كما يظهر ذلك ثانيا في التعامل معها كقانون بما أن الوظيفة العمومية بما فيها الوظيفة العمومية المحلية هي فرع من فروع القانون العام الداخلي، و ذلك عبر بيان مجال تدخل القانون في تنظيمها اي كيفية انطباقها من خلال إسناد اختصاصات للسلطة التشريعية و أخرى للسلطة التنفيذية و تحديد النص القانوني المنطبق (إن كان تشريعيا أو ترتيبيا) فضلا عن التمييز بين القوانين العادية و القوانين الأساسية في هذا المجال و ضبط الحقوق التي يتمتع بها الأعوان العموميون و من بينهم الأعوان العموميون المحليون كمواطنين و كأجراء.

اما عن مظاهر التكريس الدستوري للمبادئ الأساسية التي تحكم الوظيفة العمومية المحلية’ نذكر ما جاء أولا بدستور 1959 في التوطئة و في الفصل 6 المقر بمبدأ المساواة الذي يؤكد التساوي في التمتع بالحقوق و الالتزام بالواجبات بين المواطنين، و من ضمنهم المواطنين المترشحين للدخول للوظيفة العمومية عموما و التي تنبثق عنها الوظيفة العمومية المحلية.

و هو مبدأ يجب إعماله أيضا مع كل الأعوان العموميين المحليين في خصوص تطور مسارهم الوظيفي فهو يقر بضرورة عدم إقصاء الأعوان على أساس الدين أو المعتقد أو الجنس … مثلما اكده المجلس الدستوري و المحكمة الإدارية في فقه قضائهما، مضيفة مبدأ التمييز الايجابي الوارد في بالفصل 12 من الدستور الجديد و الذي يسمح بتمييز فئة خصوصية على باقي الموظفين او المتعاملين مع الإدارات المحلية ،و هو لا ياتي نتيجة عكسية للمساواة بل يتضمن إعمالا حقيقيا لهذا المبدأ نظرا للأوضاع الخصوصية للبعض. كما ورد ذكر هذا المبدأ في توطئة دستور 2014 و في فصله 15 ليؤكد عمل الإدارة العمومية و منها الإدارة المحلية طبقا لمبدأ المساواة.

كما تم التنصيص على مبدأ الاستمرارية بالفصل 41 من دستور 1959 الذي يتحدث عن استمرارية الدولة المتجسدة في استمرارية مرافقها العامة و المجسدة بدورها لوجود الدولة و سيادتها الداخلية مما يعني بالتالي استمرارية الوظيفة العمومية و منها الوظيفة العمومية المحلية و استمرارية عمل الأعوان العموميين بها و أدائهم لخدماتها.

و قد ورد هذا المبدأ أيضا صلب الفصل 21 من القانون التأسيسي لسنة 2011 الذي يؤكد مواصلة ممارسة الجماعات المحلية مهامها القائمة و إن وقع حل بعض المجالس البلدية على اثر تعليق العمل بدستور 1959 و ما شهدته البلاد من تغيرات قانونية و سياسية ملحوظة و تعويض هذه المجالس بنيابات خصوصية حفاظا على استمرارية الوظيفة العمومية المحلية ،مع وضع إمكانية مراجعة القوانين الأساسية التي تنظم الجماعات المحلية.

أما عن دستور 2014 فقد اقر هذا المبدأ في فصله 15 مؤكدا استمرارية المرفق العام و منه المرفق العام للوظيفة العمومية المحلية.

يبرز أيضا مبدأ التأقلم كأحد مبادئ مرفق الوظيفة العمومية المحلية في الفصل 49 من الدستور الجديد. فمن الطبيعي و من المتوقع أن يشهد مرفق الوظيفة العمومية المحلية تطورات و تغيرات مستمرة نتيجة لأوضاع خصوصية أو بهدف تحسين الأداء، و هو ما يوجب على الموارد البشرية العاملة بالإدارات العمومية و منها الجماعات المحلية، مسايرة الأوضاع العامة للمرفق و إن كان ذلك على حساب بعض مستعمليه و أعوانه.

أما عن المبادئ المتفرعة عن المبادئ الأساسية للمرافق العمومية، نذكر مبدأ الحياد المنصوص علية بدستور 1959 و بالفصل 15 من دستور 2014. و هو متمم لمبدأ المساواة و يعني عدم استغلال العون لمركزه الوظيفي بأي شكل كان و عدم التمييز بين الأعوان ومستعملي المرفق. كما هو مبدأ يلزم الإدارة المحلية أيضا بعدم التمييز بين أعوانها اعتبارا لأفكارهم السياسة و الدينية.

نجد أيضا مبدأ المجانية الذي يتمتع به بعض الأعوان المحليون دون أن تكون هذه المجانية مطلقة بل مضبوطة مجالاتها.

هنا تجدر الإشارة إلى أن دستور 2014 نص على جل المبادئ الموثقة بدستور 1959 التي تهم الوظيفة العمومية و منها المحلية كما تم ذكرها، لكنه أتى بإضافات كبرى مقارنة مع الدستور القديم، فقد خصص باب كاملا و هو الباب السابع تحت عنوان “السلطة المحلية” متكون من 12 فصلا ممتد من الفصل 131 إلى الفصل 142، متضمنة لجل المبادئ المدعمة للخيار اللامركزي و التي تتضمن بدورها إشارات غير مباشرة لإمكانية إقامة وظيفة عمومية محلية مستقلة.

من بين ما أضاف دستور 2014 تدعيما لاستقلالية الجماعات المحلية، نذكر أساسا مبدأ التدبير الحر الذي جاء بالفصل 132، مؤكدا عدم تدخل الدولة في المجال المحلي عبر منح السلطة المحلية مجالا أوسع لحرية التصرف الإداري و المالي نظرا لتمتعها بالشخصية المعنوية التي تمكنها من صلاحيات فعلية و سلطة قرار حقيقية.

هذا فضلا عن مبدأ التفريع الذي يخص الاختصاصات المشتركة بين الجماعات المحلية و السلطة المركزية استنادا إلى الهيئة الأجدر، و هو ما من شانه القطع مع الهيمنة و التفرد في عملية اخذ القرار.

كما أكد الفصل 135 اعتماد مبدأ الملائمة بين الصلاحيات و الموارد التي تتمتع بها السلطة المحلية و الرقابة اللاحقة المخففة التي تقطع مع عبئ الرقابة السابقة.

كما يتجلى التأطير الدستوري لمرفق الوظيفة العمومية المحلية أيضا عبر تكريس القواعد التي يرتكز عليها عمل الإدارات العمومية و منها الإدارات المحلية، و التي أتى بها أساسا الفصل 15 من دستور 2014 من “قواعد الشفافية و النزاهة و النجاعة و المساءلة” و هي تمثل مبادئ الحوكمة المفتوحة التي من شانها ضمان إدارة عمومية محلية محايدة مستقلة،

أما الشفافية فهي عكس الخصوصية في الحياة المدنية و تتيح حق الاطلاع على كل المعلومات المتصلة بالعمل العمومي و المحلي أساسا وهو ما أكده أيضا الفصل 32 من ضمان الحق في النفاذ إلى المعلومة، كما تضمن المساءلة المراقبة الدورية المشروعة لتسيير الإدارات المحلية و ازدياد المردودية و إضفاء النجاعة على العمل المحلي المتميز بخصوصيته و دوره الفعال في تحقيق التنمية المحلية.

كما ذكر الفصل 137 من الدستور الجديد حرية تصرف الجماعات المحلية في مواردها حسب قواعد الحوكمة الرشيدة التي هي “نظام للإدارة و للرقابة و التوجيه يشمل مجموعة قواعد و إجراءات هادفة لتحقيق التوازن بين الحقوق و المسؤوليات في إطار عام من الإفصاح و المساواة في الفرص”[4].

أما عن التأطير الدستوري للوظيفة العمومية المحلية كقانون فتظهر مثلا من خلال التنصيص على أن الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين و منهم العاملين على المستوى المحلي تتخذ شكل قوانين عادية و ذلك صلب الفصل 34 من دستور 1959 و الفصل 6 من القانون التأسيسي لسنة 2011 و أيضا عبر الفصل 65 من دستور 2014.

كما يبرز التكريس الدستوري كمؤطر قانوني للوظيفة العمومية المحلية أيضا على مستوى التعيينات في الوظائف العليا المدنية في الفصل 55 من دستور 1959 و الفصلين 11 و 17 من القانون التأسيسي لسنة 2011، أما عن دستور 2014 فتبرز على المستوى الفصل 65.

و لقد اكتسبت حقوق و حريات الأعوان العاملين لدى الإدارات العمومية و المحلية المكانة الدستورية أيضا مما يمثل ضمانة كبرى لها بوصفهم ممثلين الإدارة و مواطنين و أجراء و نذكر مثلا الحق النقابي الذي نص عليه الفصل 8 من الدستور القديم و الفصل 36 من الدستور الجديد، و هو حق الأجراء في الدفاع عن حقوقهم المادية و المعنوية و ينبثق عنه الحق في التنظم و في استقلالية التسيير الداخلي، و الحق في الإضراب الذي نص عليه دستور 1959 ضمنيا، فان دستور 2014 تجاوز ذلك بان نص عليه صراحة.

نذكر أيضا حرية التعبير و الاجتماع و تأسيس الجمعيات الواردة بالفصل 8 من دستور 1959 و الفصلين 31 و 37 من الدستور التونسي الجديد، و حقوق الدفاع الواردة بالفصل 12و التي تسمح للموظف المتهم ببيان أدلته و الدفاع عن نفسه أمام مجلس التأديب بكل الطرق القانونية هذا مع التأكيد على شخصية العقوبة و شرعيتها في الفصل 9 من الدستور القديم و الفصل 28 من دستور 2014، أي أن العقوبة لا تلزم إلا الموظف المرتكب للخطأ الوظيفي و أنها لا تكون خارج النص.

رغم أهمية الإضافات التي قدمها الدستور الجديد و خاصة في بابه السابع، إلا انه لم يتضمن كسابقه دستور 1959 و التنظيم المؤقت للسلط العمومية عبارات صريحة تفيد إمكانية إقامة وظيفة عمومية محلية مستقلة بقوانينها و نظامها خاصة فيما يتعلق بكيفية التصرف في مواردها البشرية.

غياب تكريس واضح للوظيفة العمومية المحلية
إن المتمعن في أحكام دستور 1959 يجد انه يغيب إمكانية وجود وظيفة عمومية محلية مستقلة أو متفرعة عن الوظيفة العمومية المدنية بشكل عام، بل انه قد اختزل الجماعات المحلية في فصل يتيم هو الفصل 71 الذي نص على انه “تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية و الهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالح المحلية حسب ما يضبطه القانون”.

إن هذا الفصل لا يتضمن أية إشارة لخصوصية الإدارات المحلية و خصوصية تسييرها ونشاط الأعوان العاملين بها، و ترك هذا الأمر للقوانين التي حدت من استقلالية هذه الجماعات بشكل هجين رغم ما جاء به هذا الدستور من تنصيص على المبادئ العامة التي تحكم الوظيفة العمومية و منها المحلية كمرفق عمومي أساسي للدولة و أيضا كقانون.

لقد بقيت الوظيفة العمومية المحلية في ظل التشريع السابق و منذ الاستقلال وظيفة عمومية مدنية موحدة ينظمها القانون الأساسي عدد 112 لسنة 1983 المؤرخ في 12 ديسمبر 1983 و المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة و الجماعات العمومية المحلية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية.

و هو ما يعني أن الدولة التونسية لم تضع يوما مشروع وظيفة عمومية محلية مستقلة عن الوظيفة العمومية المدنية بحيث يفرد أعوان الجماعات المحلية بنظام أساسي خاص بهم، بل إن واقع التشريع في تونس يثبت عكس ذلك فجميع الأعوان العموميين بالدولة خاضعون لنفس النظام الأساسي العام المذكور و لا تمييز و لا خصوصية للأعوان العموميون المحليين.

“إن واقع الوظيفة العمومية ككل هو واقع بتسم بثغرات نوعية في إطاره الدستوري و القانوني و في جميع مجالات تسيره و خاصة منها التصرف في الموارد البشرية التي تعرف تركيبة معقدة”[5].

و الملاحظ أن دستور الجمهورية الثانية اقر نفس المبادئ التي نص عليها دستور 1959 و أضاف لها دون ذكر صريح لإمكانية تجسيد وظيفة عمومية محلية على ارض الواقع ووضع نظام أساسي خاص بالأعوان العاملين بالإدارات المحلية.

لعل هذا الغياب لوظيفة عمومية محلية مستقلة سببه الرئيسي هو شكل النظام الإداري المعتمد و هو التنظيم المركزي الذي تجمع في إطاره الوظيفة الإدارية و تنحصر بيد ممثلي الدولة في العاصمة تحقيقا لوحدتها و حفاظا على سلطتها.

من هنا يتجلى طغيان السلطة المركزية على السلطة المحلية و غياب الإرادة التشريعية و السياسية في تكريس واضح للوظيفة العمومية المحلية، رغم أن التنظيم الهيكلي لوزارة الداخلية في تونس و تحديدا ضمن المصالح الإدارية المتخصصة الموجودة بها، توجد إدارة عامة للجماعات المحلية تشمل ثلاث إدارات متكاملة و أربع وحدات، و من مشمولاتها الإشراف على البلديات و المجالس الجهوية و إعداد الدراسات اللازمة في مجال التنظيم الإداري و التعاون البلدي و تكوين الأعوان و المنتخبين، وفي ذلك إقرار ضمني من الهياكل الأساسية الإدارية للدولة بخصوصية المصالح المحلية و خصوصية تكوين أعوانها مما جعلها تخصص لها إدارة عامة بمصالحها المتنوعة لتهتم بالشأن المحلي، لكن مع وضع هذه الإدارة تحت سلطتها و بمركزها نظرا لطغيانها.

كما أن النظام الأساسي العام لسنة 1983 و هو نص ذو صبغة تشريعية يتضمن مجموع القواعد و المبادئ التي تحكم علاقة الإدارة العمومية بأعوانها، يمثل أيضا مظهرا من مظاهر هيمنة المركز.

نأخذ كمثال التدخل المفرط للسلطة المركزية في الشؤون المحلية و أساسا في منظومة التصرف في الموارد البشرية، الفصلين 13 و 14 اللذان يؤكدان أن المرتب و المنحة اللتان يتقاضاهما العون العمومي و منها العون العمومي المحلي يتم ضبطهما بأمر من وزير المالية.

كما يشير الفصل 18 إلى تحكم الوزير الأول في الانتدابات التي تعقدها الجماعات المحلية للتوظيف و لسد الشغور الوظيفي. أما الفصل 28 فيؤكد أن تقييم الأداء يكون حسب آلية الأعداد المهنية و العدد المسند بعنوان منحة الإنتاج و تحكم الوزير الأول في ضبط الترقيات.

إذا لم تترك التشريعات ذات الصلة للإدارة المحلية مجالا يذكر للتدخل في عملية التقييم والترقية بل جعلتها مقيدة بجملة من الشروط و الضوابط، و خرجت بذلك منظومة التأجير عن نطاق الإدارة المشغلة. ليبرز دور الدولة بشكل حاسم و تمارس رقابة واسعة على عملية التصرف في الموارد البشرية.

“إن هذه المركزية قد أدت لا محالة لأزمة تصرف و إلى ثقل في القواعد الإجرائية والشكلية المنظمة للوظيفة العمومية و هو ما يفسر العجز و النقص في التأطير خاصة الذي تعاني منه الجماعات المحلية إضافة إلى بطئ في تقديم الخدمات الإدارية نظرا لتأثير هذه المركزية المفرطة في أوضاع الأعوان العموميين و لا تأخذ في عين الاعتبار كثيرا مردوديتهم”[6].

إن المنظومة التونسية طالما نهلت من مدرسة البيروقراطية التي مثلت قيدا يراقب حرية الفاعلين و يحرمهم من إمكانية التصرف و الإبداع. فلا مجال لذلك مع وجود قيود صارمة و أنظمة محددة سلفا تنطبق على جميع أصناف الوظائف العمومية، و هي قواعد موضوعة حرصا على احترام مبدأ التسلسل الإداري ليكون وزير الداخلية هو المسير الأصلي للجماعات المحلية حسب التنظيم الهرمي المحكم ، و ما يخلفه ذلك من عرقلة للتدبير الإداري و المالي المستقل.

و تزيد النصوص التشريعية و الترتيبية المنظمة للجماعات المحلية الأمر تعقيدا و الإدارة المركزية هيمنة. إذ ينص الباب الخامس من قانون البلديات لسنة 1975 و المتعلق بالأعوان البلديين في فصله 95 على أن المنح و مقاييس إسنادها تحدد بأمر و الفصل 96 يؤكد أهمية مصادقة سلطة الإشراف على عدد الأعوان البلديين الذين تتم نقلتهم أيضا بقرار من وزير الداخلية.

كما ينص الفصل 102 على أن الرتب و الخطط الوظيفية للأعوان المحليين تحدد و تضبط شروطها بأمر.

أما الباب السابع من قانون المجالس الجهوية و المخصص لأعوان المجلس الجهوي فيبرز في فصليه 43 و 44 أن نقلة أعوان المجالس الجهوية و إلحاقهم يتم بقرار من وزير الداخلية.

إنه من الملاحظ عموما أن إشكاليات و سلبيات الإطار المنظم للتصرف في الموارد البشرية في تفاقم و تطور ملحوظ في ظل تنظيم تقليدي مركزي الذي يهدف أساسا إلى الحفاظ على التوازنات العامة لميزانية الدولة و تحكمها في مرافقها الأساسية، مما حرم الجماعات المحلية من النهوض بنفسها و من استعمال آليات خاصة لتحقيق استقلاليتها التي بقيت منشودة إلى حد اليوم، و بقي المطلب الدستوري الراهن هو إعمال نظام تعدد الوظائف العمومية للحصول على وظيفة عمومية محلية مكرسة صلب نص الدستور كضمانة عليا للتطبيق و الممارسة.

و هو ما يأمله الفاعلون و الباحثون في مجال الوظيفة العمومية في تونس خاصة في ظل المرحلة الراهنة التي تنبئ عن تغيرات حاسمة يجب أن تواكبها أحكام الدستور الجديد وتضع لها التشاريع قوانين تطبيقية واضحة.

نحو دعم التكريس الدستوري للوظيفة العمومية المحلية:
لقد أصبح إعمال وظيفة عمومية محلية مستقلة بذاتها بحاجة ملحة ومطلبا راهنا في البلاد التونسية التي تدفعها الضرورة إلى التوجه نحو تغيير الوضع الراهن اعتمادا على أهداف جديدة و طرق حديثة للانتقال بالموجود نحو المنشود، مرورا بتحديد مبررات هذه الضرورة وصولا إلى وضع تصور خاص لأفاق الوظيفة العمومية المحلية .

مبررات إقامة وظيفة عمومية محلية
من البديهي أن يكون وراء مطمح إنشاء مؤسسة ما أو تطبيق أفكار نظرية على ارض الواقع، عدة مبررات و أسباب دافعة إلى ذلك.

و لعل أهم ما يدفع اليوم بالنظام القانوني التونسي إلى إقامة وظيفة عمومية محلية مستقلة عن الوظيفة العمومية المدنية، هو التطورات الحاصلة و التي بلغت القوانين التنظيمية للدولة و إعادة النظر في سياساتها المعتمدة بغية المضي نحو الأفضل.

إن من ابرز ما أفرزت هذه التغيرات هو الدستور التونسي الجديد لسنة 2014 الذي جاء بأحكام متنوعة و متميزة تحكم الإدارة العمومية و أساسا الجماعات المحلية و التي يجب أن يعمل بها و أن تطبق واقعا و تنتج أثارا.

انه لا معنى للحديث عما تضمنه الدستور الجديد من أحكام و ما آتى به من إضافات كبرى على مستوى السلطة المحلية الوارد ذكرها بالباب السابع منه، إن لم يكن هناك تمشي و إرادة تشريعية و سياسية نحو إفراد الموارد البشرية العاملة بهذه السلط المحلية بنظام أساسي خاص يتعلق بالوظائف المسندة لهم باعتبارهم الممول الأساسي لخدمات عامة و جوهرية.

إن هذا التحول المشهود و الاهتمام البالغ بالشأن المحلي الذي وصل حد التكريس الدستوري، يجب أن لا يقف حدها، بل أن يجد له صدا ملموسا عبر تطبيقه و العمل على ضرورة مطابقة القوانين التنظيمية المكملة (لاحقا) للدستور لما تضمنه من مبادئ و قواعد.

لقد انتهج الدستور الجديد نهج اللامركزية صراحة و هي كأسلوب للتنظيم الإداري يتلائم بشكل أوفى مع تطور العلوم الإدارية و الاجتماعية و تضمن الاستقلالية للجماعات المحلية، أي حق هذه الجماعات المحلية في تنظيم شؤونها الداخلية بحرية دون التأثر بالعوامل الخارجية و ذلك من شانه بناء أسس ركيزة لهذا النمط من التنظيم الترابي.

إن من أهم و أول مقومات اللامركزية الإدارية هي تمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية أي بالإرادة خاصة و وجود قانوني مستقل، مما يعني قدرتها المنفردة على الالتزام و الإلزام، و هي بذلك مستقلة عن الشخصية المعنوية للدولة مما ينتج عنه بالضرورة تمتعها بالاستقلالية الإدارية التي تمكنها من صلاحيات دائمة و فعلية و سلطة قرار حقيقية في جميع المجالات الراجعة لها بالنظر (هذا فضلا عن الاستقلالية المالية أي التمتع بذمة مالية و ميزانية خاصة مستقلة عن ميزانية الدولة).

إن هذه الاستقلالية التي اعترف بها للجماعات المحلية في ظل دستور 1959 زاد من تدعيمها الفصل 134 من الدستور الجديد الذي يؤكد على تمتع الجماعات المحلية بسلطة ترتيبية و تنشر قراراتها في جريدة رسمية خاصة بها.

إن التمتع بهذه السلطة الترتيبية و تكريسها هو سبب أخر على غاية من الأهمية يبرر ضرورة إنشاء وظيفة عمومية محلية في تونس ،و هي مؤشر هام على واسع الصلاحيات و السلطات التي ستتمكن منها الجماعات المحلية، و تكون بذلك من إحدى ابرز المؤشرات الدستورية التي تدل على إمكانية وضع نظام أساسي عام يهم الموظفين على المستوى المحلي و بالتالي التخلي عن وحدة الوظيفة العمومية و التوجه نحو إرساء نظام تعددها و إفراز وظيفة عمومية محلية مستقلة في جميع المجلات التي تهم الموارد البشرية العاملة بها انتدابا و تعيينا و ترقية و تأديبا … وفقا لمبدأ التدبير الحر (الفصل 132) الذي يؤكد بدوره على عدم تدخل الدولة في المجال المحلي و منح السلطة المحلية مجالا أوسع لحرية التصرف و خاصة في ما يخص مواردها البشرية .

كما تمثل الخصوصية التي يمتاز بها الشأن المحلي إحدى ضروريات إقامة وظيفة عمومية محلية اليوم، و الشأن المحلي هو مجموعة المصالح المحلية المتميزة عن المصالح الوطنية و التي ينبغي ترك مباشرتها و الإشراف عليها للمصالح الإدارية المعنية بها بكونها الأدرى باحتياجاتها و الأقدر على تسييرها، “ففي مقدور الحكم المحلي أن يكون أكثر تجاوبا و تكييفا مع خصوصية أوضاع كل منطقة ترابية”[7] و هو ما يمكن الجماعة المحلية من تقدير صلاحيات الأعوان العاملين بها و عددهم و تصنيفهم حسب الرتب المتوفرة و حسب احتياجات المنطقة اضفاءا للنجاعة و تمكينا للإطار الكفء المحلي من فرصة للعمل.

و ما يزيد من ضرورة إعمال وظيفة عمومية محلية أيضا هو تحقيق الديمقراطية المحلية التي تعرف بمشاركة المواطنين في تدبير شؤونهم المحلية عن طريق انتخاب ممثليهم كما تقوم دلالة على القيادة الجماعية المتسمة بالمشورة و المشاركة في عملية اخذ القرار. إذ أن الديمقراطية المحلية هي بمثابة النظام الاجتماعي الذي يعزز شعور الفرد بالمسؤولية و حتى يكون المواطن فعالا و مساهما في تحقيق التنمية على المستوى المحلي.

وهنا يبرز تحقيق التنمية المحلية أيضا كأحد مبررات إعمال وظيفة عمومية محلية تهدف إلى خلق مجال واسع للمشاركة الجماعية في تحسين مستوى المعيشة حسب خصوصية أوضاع المناطق، فضلا عن تشجيع المبادرات الفردية للسكان المحليين و ما ينجر عن ذلك من تفعيل لدور السلطات المحلية و إسنادها مهام تنموية تزيد من فعاليتها و تعزز دورها في تحمل مسؤولياتها على النطاق المحلي الراجع لها بالنظر.

و من هنا تعتبر الموارد البشرية رافدة للتنمية المحلية و عمادا ناجحا المخططات التنموية و تحسين جودة الحياة إن تمكنت الجماعات المحلية المشغلة و المؤطرة لها أن تتحكم في كيفية توزيعها حسب الكفاءة و الجدارة و تماشيا مع الخطط الوظيفية الموجودة .

و إلى جانب مبرر تطبيق الأحكام الدستورية الواردة بدستور 2014 و أساسا الباب السابع منه (من لامركزية و استقلالية إدارية و ديمقراطية محلية…) يجب أن لا نتغاضى عن واقع الوظيفة العمومية على المستوى المحلي أساسا اليوم و ما تشهده من تغيرات و نقائص و سلبيات أنتجتها التبعية المفرطة للسلطة المركزية و هيمنتها على جل مجالات التسيير و التصرف أساسا في الموارد البشرية التي هي بيد المركز وحده.

إن من النتائج الحتمية لهذه التبعية هو عدم استقلالية الإدارة المحلية و أنظمتها و الحد من سلطاتها في إدارة الشأن المحلي ،حتى أنها تفقد القدرة على التدبير الحر لتعيين و انتداب و توزيع الأعوان العموميين العاملين بها حسب الحاجة و الشغور و الرتب( خاصة أن عدد الأعوان العموميين في تزايد كمي ملحوظ مع عدم مطابقة الكفاءات المهنية للمناصب الوظيفية و للرتب و الأجور في اغلب الأحيان)، مما يستوجب معه ضرورة منح السلطة المحلية صلاحية التصرف في مواردها البشرية لإعادة توزيعها حسب الكفاءة و في حدود الاختصاص و تماشيا مع مقتضيات المصلحة العامة التي تؤمنها الجماعات المحلية لمتساكنيها.

هذا فضلا عن انه غالبا ما ينظر للموظفين المحليين كاحتياطيين للوظيفة العمومية يتم اللجوء إليهم لسد الشغور الوظيفي، إلى جانب الجمود الواضح بخصوص ترقيتهم مقارنة مع موظفي الإدارات العمومية و تفشي ظاهرة عدم ملائمة المركز الوظيفي مع الدرجة المتحصل عليها، و ظاهرة التمييز غير المبرر بين أعوان الدولة و الأعوان المحليين في الامتحانات و المناظرات الداخلية (مثلا فيما يتعلق بعدد سنوات الاقدمية المطلوبة للترشح و الانتداب).

إن القطاع العمومي و خاصة المجال المحلي يفتقد للحركية و للتداول على مواقع العمل المحلي و ذلك عائد لكون الإدارة المحلية و بحكم تصرف السلطة المركزية في منظومة الموارد البشرية و طرق تسييرها لم تعد تستقطب الكفاءات التي تحتاجها أمام إغراءات القطاع الخاص و هجرة الكفاءات إلى الدول الاجنبية اعتبارا لأنظمة التحفيز التي تعتمدها و الغير معمول بها في الدولة التونسية- التي تتميز بانصراف قوانينها إلى الانهماك في أنواع الرقابة و الإشراف- التي لا تأخذ كثيرا بالاعتبار المعايير الموضوعية في ذلك ( كنوعية الهيكل الإداري و حجم المهام و الامتداد الجغرافي و التي تكون الجماعات المحلية على علم أوسع و اطلاع أدق بتفاصيل هذه المعايير من السلطة المركزية).

إن هذه الارتجالية في التصرف في الموارد البشرية أدت إلى تباينات واضحة صلب الهيكل الإداري الواحد و إلى التداخل في توزيع المهام مما يؤدي إلى ضعف الأداء و افتقاد المهارات و عدم تحقيق التنمية المحلية.

إذا يشهد قطاع الوظيفة العمومية اليوم انتقادات عدة أهمها سوء التصرف في الموارد البشرية و هو ما يبرر إقامة وظيفة عمومية محلية تفاديا لهذه الثغرات الحادة و تطبيقا للأحكام و المبادئ المتضمنة في دستور 2014 للحصول على المنشود في الوظيفة العمومية المحلية.

المنشود في الوظيفة العمومية المحلية
إن واقع الوظيفة العمومية المحلية في تونس و على مر عقود يبرز أنها ظلت تشكو نقائص عدة و ثغرات نوعية أنتجت عديد الآثار السلبية في تسيير المرافق العمومية و تأدية الخدمات العامة و ذلك ناتج أساسا عن سوء التصرف في الموارد البشرية.

و على ضوء ما أتى به الدستور الجديد من تحديثات هيكلية و وظيفية للإدارة المحلية فان تلك دوافع هامة نحو التطور بالوظيفة العمومية المحلية و إرساء استقلاليتها عن المركز وفتح أفاق جديدة للموظفين المحليين للعمل و تحسين الأداء المحلي.

إن إرساء نظام الوظيفية المحلية في تونس يوجب ضرورة التخلي عن الوحدة التي ميزت الوظيفة العمومية منذ الاستقلال، و إعمال نظام تعدد الوظائف العمومية كبديل و التنصيص على هذا النظام صلب وثيقة الدستور لما تؤمنه من مكانة عليا و ضمانة لعدم مخالفته بل تؤكد ضرورة ملائمة القوانين التنظيمية اللاحقة له.

و في ظل الثغرات القانونية الواضحة في منظومة الوظيفة العمومية، وجب الاستئناس بالدولة الفرنسية كمثال لطالما نهلت من مبادئه و أسسه الدولة التونسية، و التي و منذ منتصف الثمانينات ،عملت على تقسيم الوظيفة العمومية إلى ثلاثة أصناف أولها الوظيفة العمومية للدولة و نظمت أحكامها بقانون 13/7/1983 و قانون 11/01/1984 لضبط حقوق و واجبات أعوان الوظيفة العمومية. أما ثانيها فهي الوظيفة العمومية الإقليمية المنظمة بقانون 24/01/1984، كما خصص قانون 9/01/1986 للوظيفة العمومية الاستشفائية.

إن إعمال نظام تعدد الوظائف داخل نفس الدولة ينتج عنه بالضرورة تنوع الأنظمة الأساسية و استقلاليتها حيث يخص كل منها صنفا معينا من أصناف الوظيفة العمومية مما يمكن من إصدار نظام أساسي عام مستقل خاص بأعوان الجماعات المحلية يتناسب وأوضاع هؤلاء الأعوان و خصوصية المصالح المحلية و حاجياتها.

كما أن هذا النظام الأساسي العام الذي يتخذ شكل قانون عادي، يجب أن يكون هو المؤطر الأساسي لوضعية الموظفين لدى الإدارات المحلية و المتضمن لأحكام و المبادئ و الركائز التي ستقوم عليها علاقة هؤلاء الأعوان بالإدارة المحلية المشغلة لهم، مع ضرورة إرفاقه بنصوص ترتيبية تبين كيفية تطبيق ما جاء بالنظام الأساسي العام الخاص بهم.

إن النصوص الترتيبية التي يفترض أن تلحق بهذا النظام الأساسي يجب أن تصدر بالضرورة عن الإدارة المحلية ذاتها و ذلك لتطبيق لما جاء بالدستور في فصله 134 من أن “تتمتع الجماعات المحلية بسلطة ترتيبية”، فليس من المنطقي ولا من القانوني أن لا تتحكم الإدارة المشغلة في تحديد المسار الوظيفي للموظفين العاملين بهياكلها و المقدمين لخدماتها و المسيرين لها كمرفق عمومي، خاصة و أن الإدارة المحلية هي الإدارة الأقرب من مشاغل المواطنين و هي الأكثر دراية بالطرق الأنسب لكيفية تقديم الخدمات الإدارية لهم و كيفية التصرف في مواردها البشرية.

من هذا المنطلق فان تحديث الوظيفة العمومية و تأسيس وظيفة محلية يتطلب تفويضا واسعا للسلطات و الصلاحيات و التخلي عن “المركزية المفرطة التي اعتبرت احد أهم مرتكزات النظام التسلطي، توفر له مجال إضافي للتدفق في جل المناطق”[8] مقابل إعمال حقيقي لمفهوم “اللامركزية التي تقوم من حيث الأصل على محور الحرية”[9]. وهي حرية تمكن من إعطاء سلطات أوسع لصانعي القرار و ذلك لإدخال التحويرات التشريعية اللازمة لبلوغ الأهداف المرسومة.

إذا تبرز السلطة الترتيبية المستقلة في جملة الإجراءات و القرارات المنظمة لعلاقة الأفراد العاملين بإدارتهم و المؤطرة لأنشطتهم المتعددة. وفي هذا الإطار يجب فسح المجال للجماعات المحلية و “تمكينها من وضع استراتيجيات خاصة للتصرف التي تضفي إلى التزامها بقواعد هذه الإستراتيجية و إلى تحملها مسؤوليتها الإدارية و النهوض بأوضاعها المهنية و الاعتراف بتطلعاتها و حقوق أعوانها”[10].

و من بين ما يجب أن تتضمنه النصوص الترتيبية الصادرة عن السلطة المحلية بخصوص المسار الوظيفي لأعوانها نأخذ كمثال سلطات التعيين و الترقية و التدرج و قرارات فتح المناظرات و الإعلان عن الانتدابات و توقيع العقوبات.

وفي هذا الخصوص يمكن الاستفادة من المثال المغربي و تحديدا من الميثاق الجماعي أو المرسوم المنظم للجماعات المحلية بالمغرب و المتمثل في القانون عدد 1.02.297 المؤرخ في 3 أكتوبر 2002 كما تم تنقيحه في 4 مارس 2003، إذ تنص مثلا المادة 43 منه على أن النفوذ الترابي للجماعات يعود لسلطة المجلس الجماعي و المادة 64 التي تؤكد تسيير رئيس المجلس الجماعي للموظفين بجميع أصنافهم، و أنهم يتقاضون أجورهم من الميزانية المحلية أو من الميزانية الإقليمية آو من ميزانية الجهة.

أما المادة 121 منه فتنص على سلطة المجلس الجماعي في تعيين موظفي و أعوان الجماعة الضروريين لممارسة الاختصاصات و يحدد عدد المناصب حسب الفئات. وتخص المادة 130 قرارات الترقية في الدرجة و الرتبة و قرارات التأديب الصادرة عن رئيس المجلس الجماعي أيضا.

كما ينص الفصل 3 من المرسوم رقم 2.77.738 المؤرخ في 27 سبتمبر 1977 و المعتبر بمثابة النظام الأساسي لموظفي الجماعات المحلية المغربية على انه نظام يطبق على جميع موظفي الجماعات المحلية و ذلك بصريح عبارات النص ،على عكس ما جاء به الفصل 1 من قانون 1983 بتونس المؤكد صراحة على خضوع الأعوان الدولة و الجماعات المحلية و المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية إلى نفس النظام الأساسي العام و الذي يمثل قانونا عاديا يجب الارتقاء به إلى منزلة القانون الأساسي.

إذا من الملاحظ الاختلاف الشاسع في التنظيم القانوني للوظيفة العمومية المحلية بين المملكة المغربية و الجمهورية التونسية ،إذ يجب على هذه الأخيرة أن تواكب قواعد التصرف الحديث على المستوى المحلي و تكريسها دستوريا و العمل على ضرورة التعايش بين هذه القواعد و بين المنظومة القانونية التي ستحكم الوظيفة العمومية المحلية أساسا فيما يهم المسار الوظيفي للموظف العمومي المحلي.

و المسار الوظيفي هو مسار استلهمته البلاد التونسية من نظيرتها الفرنسية، يمثل إستراتيجية للتكيف و للتأقلم الدائم مع الخطط الوظيفية إذ يمكن من استقرار الموظف بوظيفته ليكون إزاءها في وضعية نظامية و ترتيبية معينة مكرسا لمبدأ الحياد و مغلبا للمصلحة العامة( على عكس نظام الاستخدام المرتكز على الانتداب لشغل خطط محددة لمدة معينة على أساس تعاقدي مما لا يمكن من الاستقرار الوظيفي الذي يؤمنه سابقه).

كما أن ضمان حقوق و حريات الموظفين العموميين المحليين يجب أن يبلغ درجة تكريسه دستوريا، فالجماعات المحلية يجب أن تكون نموذجا لاحترام حقوق و حريات الأفراد والجماعات لان وجودها مرتبط بشعار الديمقراطية المحلية.

و من الحقوق التي يجب التركيز عليها بالنسبة للموظفين العموميين المحليين هو الحق النقابي الذي “لم يرسخ بعد كقناعة و لم يدخل ضمن تقاليد الفئة المحلية هذا مع ارتباطه باللون الحزبي للرئيس المحلي مما يعرقل تطور العمل النقابي”[11] و خاصة منه الحق في الإضراب رغم الدسترة التي حظي بها، و من هنا يجب إفراد باب خاص بالحق النقابي للموظفين العموميين المحليين و بنصوص ترتيبية تطبيقية تضمن ممارسة هذا الحق مع مراعاة استمرارية الموفق العام المحلي.

كما يجب على الجماعات المحلية في إطار منظومة التصرف في الموارد البشرية إعادة النظر في المسار المهني لموظفيها، و ذلك باعتماد استراتيجيات و سياسات جديدة لجذب هذه الموارد البشرية القادرة على تقديم الإضافة لها ،و أيضا باعتماد طرق رقابة و تسيير تتجه إلى مجابهة النتائج المتحصل عليها مع الأهداف المنشودة لضمان الملائمة بين الوسائل و الإجراءات و بين الإعمال و الأهداف .

نذكر على سبيل المثال من بين آليات الممكن اعتمادها و التي يجب التنصيص عليها ضمن الدستور التونسي ضمانا لاحترامها و للعمل بها آلية التحفيز و التي هي “تقنية تعتمد للحث على العمل و تدفع للإنتاج أكثر مقابل امتيازات معينة”[12] و منها نظام التحفيز التعاقدي الذي يفضي إلى نظام تأجير خصوصي و مشجع تحقيقا للتنمية المحلية، بما هي الوظيفة الأساسية للجماعات المحلية، و لان الربط بين الإدارة العمومية كعامل مؤثر في التنمية و بين العنصر البشري في تحقيقها هو ربط موضوعي يعكس استحالة فصل البعدين عمليا لتأثيرهما المتبادل فيما بينهما و هو ما يتطلب تطوير جل آليات تقييم أداء العون و ربطه بالجدارة و الكفاءة مع إضفاء الرقابة المرنة من قبل الهياكل المختصة.

كما يمكن الاقتداء “بقواعد التسيير المعمول بها في اليابان القائمة على مبادئ حلقات الجودة التي تنهل من نظرية ’تايلور’ (Taylor) العالمية المرتبطة بالمنطق العملي التجريبي و التي استطاعت المؤسسات اليابانية عبرها أن تصدر نجاحاتها في تقنيات إدارة الموارد البشرية نحو بقية دول العالم”[13].

هذا مع ضرورة اعتماد آلية الاستشارة بما هي شكل من إشكال الديمقراطية المحلية و إطار مثالي لممارسة اكبر عدد ممكن من ذوي الاختصاص في مجال الموارد البشرية لعملية تشخيص قضايا الوظيفة العمومية المحلية لفهمها المشترك ثم وضع الحلول الأنسب مرورا إلى مرحلة تنفيذها. و هي من آليات الديمقراطية التشاركية الوارد ذكرها بالفصل 139 من دستور 2014.

محاضرات:

*المنتصر الوردي: محاضرات في الوظيفة العمومية المحلية، كلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة، 2013.

-2المراجع باللغة الفرنسية :

Ouvrages spéciaux :

*Maller-Quoy(I) : Démocratie locale, édition de juris-classeur, université Picardie Jules Verre, 27 avril2004.

Thèses :

*Tarchouna(L) :Décentralisation et déconcentration en Tunisie, thèse de doctorat d’Etat en droit public ,faculté de droit et des sciences politiques, Manar,2005 .

Articles :

*Baccouch(N) : Constitution et pouvoir local en Tunisie, article publiée sur leur compte face book,2011.

Ben Abdallah(A) : Service public local et constitution : le cas tunisien, droit et *politique,2012 ,p 5.

[1] منتصر الوردي: محاضرات في الوظيفة العمومية المحلية، كلية الحقوق و العلوم السياسية بسوسة، 2013

[2] محمد رضا جنيح : القانون الإداري، مركز النشر الجامعي، تونس 2008

[3] محمد ضيفي: اللامركزية و اللامحورية الترابية بالجمهورية التونسية، المطبعة الرسمية، 2010

[4] عزة الشاوش بوراوي: تكريس الحوكمة من خلال دسترة مبدئي الشفافية و المشاركة، 2012

[5] عبد الخالق حسين: عوقات الديمقراطية في العالم العربي، مجلة الديمقراطية، 2008

[6] عمر بن الهادي: التنمية الجهوية و السلطة المحلية في دستور الجديد، الأعمال المعلقة و الحدود، صحيفة الطريق الجديد، 2014

[7] سليمان ولد حامدون: دور اللامركزية الادارية في تحقيق التنمية المحلية بموريتانيا، ص4

[8] لطفي طرشونة: منظومة التسلط في النظام السياسي التونسي قبل ثورة 14 جانفي 2011، مجلة القانون و السياسة، 2012، ص18

[9] محمد العجمي: ملتقى حول إصلاح الجماعات المحلية ببلدان المغرب العربي، مداخلة بعنوان موانع إصلاح الجماعات المحلية ، مستقبل الماضي، كلية الحقوق و العلوم السياسية بجامعة محمد ضفر بسكرة، الجزائر، افريل 2009 ص14

[10] عبد الجليل الظاهري: مشروع ملائمة الموارد البشرية للحاجيات الحقيقة للدولة و الم الع: الشروق 22/1/2010

[11] سعيد الشاوي : العمل النقابي وسط الجماعات المحلية بالمغرب، الحركة العمالية و النقابية، جريدة الحوار …. عدد 1383 في 20 افريل 2005

[12]

[13] محمد زهير حمدي: الاستشارة الوطنية لتحديث الوظيفة العمومية في تونس: رؤية سوسيولوجية، جريدة الصباح 10/01/2008