من بين الأفكار الرائجة في أوساط الطلبة في كليات القانون التونسية أن دراسة القانون تقوم أساسا على الحفظ وعلى الحفظ عن ظهر قلب لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. وثمة فكرة ثانية مفادها أن من يعتزم دخول معترك المحاماة عليه أن يعي أن ما تلقاه من معارف نظرية لن يسعفه كثيرا في عمله لأن ممارسة المحاماة “شيء مختلف تماما” عن الدراسة. هاتان الفكرتان وبغض النظر عن القدر الكبير من المغالاة الذي تحملانه فإنهما تشيران بوضوح إلى ظاهرتين سلبيتين يعاني منهما تدريس القانون في تونس وهما الطابع النظري المفرط لتدريس القانون وغلبة طريقة التلقين على منهج التفكير والنقد.
ولئن تقلصت الآثار السلبية للطابع النظري في مهنتي القضاء والمحاماة بإحداث المعهد الأعلى للقضاء والمعهد الأعلى للمحاماة إلا أنها لا تزال محسوسة في عديد الحالات ولعل ذلك عائد إلى أن هذا التكوين الإضافي والذي يحتوي جانبا تطبيقيا مهما إنما يأتي بعد أن تتشكل شخصية طالب القانون وتصبح المقاربة النظرية لديه بمثابة طبع لا يتغير.
فشخصية طالب القانون إنما تنحت معالمها في سنيّ دراسته الأولى ولا جدال في أن ما يميز السنوات الأولى في دراسة القانون في جامعاتنا هو طغيان التلقين والمقاربات النظرية البحتة. فطريقة سريان الدروس في المرحلة الأولى، في غالب الأحيان، تقوم على إلقاء الأستاذ للدرس بل وأحيانا الإملاء بكل بساطة في جو روتيني مملّ لا يوحي بأننا على مقاعد الجامعة حيث لا مجال لمشاركة الطالب في تأثيث الدرس عبر أسئلة أو نقاش. والانطباع السائد لدى الطلبة هو أنه لا جدوى من حضور درس كهذا إذ أن الحصول على الدرس مطبوعا (polycopié) أو حتى منسوخا (photocopié) يغني عن الحضور. ولا يلام الطلبة كثيرا على هذا التفكير ذلك أنه على الأستاذ في المقام الأول أن يعي أن الدرس ليس فقط فرصة لتزويد الطالب بالمعلومات التي يمكنه أن يجدها في أي مرجع (وبشكل أكثر تفصيلا) وإنما هو أيضا وأساسا مجال للتدرب على التفكير وتنمية الحس النقدي لدى الطالب. بحيث أن الأهم ليس المعلومة وإنما طريقة الوصول إليها والتعامل معها والموقف منها وكيفية تجاوزها عبر النقد وتوليد فكرة جديدة.
إن طريقة التلقين لا تحث بتاتا على المطالعة والرغبة في الذهاب إلى ما هو أبعد من المعلومات المتوفرة في المحاضرات عبر الإطلاع على كتابات فقهاء أو أساتذة آخرين ومكافحة كتاباتهم بعضها ببعض وإمعان النظر والتفكير في كل ذلك واعتماد الدرس كمنطلق لفهم المادة وعلاقتها ببقية مواد القانون ومدى تأثرها بالظواهر الاجتماعية وتأثيرها فيها.
لا ريب إذاك أن طريقة التلقين لا تشجع الطلبة على أن يكون لهم موقف شخصي مما يحصلون عليه من معلومات وهذا أمر يزداد خطورة إذا ما أضفنا إليه ظاهرة أخرى من الصعب حصر مداها وإن لم يكن من شك في وجودها وهى أن بعض الأساتذة يفضلون بل ويشجعون الطلبة في فروضهم على استحضار الدرس، كل الدرس، ولا شيء غير الدرس مما يقضى على حرية الطالب ويمحي شخصيته ويرسخ لديه فكرة أن العلم في الكراس وليس في “الراس” !! عديد الأساتذة يردون على هذا المأخذ بكونهم مجبرين على ذلك ضرورة أن الطلبة غير قادرين حتى على استحضار ما يوجد عندهم في المحاضرات فضلا عن الاجتهاد والتفكير النقدي. ولكن حري بنا أن نتساءل عن سبب هذا العجز؟
هذا العجز الذي أصبح يشكل آفة عظمى في أوساط طلبة القانون إنما مرده ضعف الأداء الفكري للطلبة وقدراتهم التأليفية والنقدية وهى نتائج لمناهج التدريس وليست سببا لها. والمفروض في الأستاذ سواء كان في الجامعة أو المعهد أن يحدث تغييرا في التلميذ والطالب عبر مناهج التدريس وطرقه لا أن يغير المناهج الكبرى[1] والبرامج تبعا لمستوى التلميذ أو استعداداته! لأن ذلك من شأنه أن يتسبب في تقهقر مستوى التعليم ما ينتج بدوره أجيالا من الطلبة بمستوى أدني من سابقيهم وهكذا دواليك حتى نصبح حبيسي حلقة مفرغة تؤدي إلى انهيار الجامعة بشكل تام.
وتسهم المقاربة النظرية المشطة بدورها لا فقط في تعميق أجواء الروتين والملل والكآبة في جامعات القانون بل خاصة في عزلها تماما عن محيطها وعن المحيط المهني الذي سيجد الطلبة أنفسهم فيه خلال بضع سنوات. فنجد في دروس القانون (سواء العام أو الخاص) أثرا لنقاشات فقهية قديمة مر على بعضها قرن ونيف في حين تغيب مسائل مجتمعية راهنة سواء أطرها القانون أم لم يؤطرها. ويكفي أن نتساءل كم من طالب ولج بهو محكمة أو قاعة جلساتها (زائرا لا طرفا في قضية بطبيعة الحال) في إطار زيارة تتم بالتنسيق بين الكلية من جهة والمحكمة من جهة أخرى؟ أو تعرّف على طريقة العمل في غيرها من المهن القانونية أو أمضى تربّصا في مؤسسة ولقي ما ينبغي من المتابعة والتأطير[2]؟ إن مبادرات من هذا النوع ليس من شأنها فقط أن تشكل أداة بيداغوجية لفهم الزاد النظري وإثراءه بل تشكّل مدخلا لولوج عالم الحياة المهنية إضافة إلى كونها تمكن الطلبة اليافعين من معاينة كيف يحيا القانون بيننا بشكل يومي وكم هو لصيق بكل أوجه الحياة وهذه هي السبيل المثلى لتلقينهم الشغف بالقانون.
كما تزداد الهوة بين الجامعة والأوساط القانونية التي تطبق القانون بشكل يومي من خلال ندرة التواصل بين القضاة والمحامين والأوساط الجامعية وهو تواصل مهم لحيوية القانون سواء في مستوى مناهج التدريس أو تطوير القاعدة القانونية لتستجيب لتطور المجتمع. وهذا التواصل ممكن عبر أشكال شتى كتعزيز حضور القضاة والمحامين في الجامعات من خلال المحاضرات والدروس أو المنشورات المشتركة أو الورشات القانونية التي ينشطها الجانبان والتي تسمح للطلبة بالاستعداد لولوج عالم الممارسة القانونية.
إن ما قدمته لا يدّعي أن يكون توصيات في اتجاه معين بقدر ماهو خواطر وأفكار أعتقد أنها تراود الكثير ممن درسوا أودرّسوا القانون في تونس. وهي قاصرة لضيق المجال عن الإلمام بكل جوانب المشكل المطروح ولكنها بداية لتفكير جماعي موسع حول مجمل إشكالات تدريس القانون في الجامعة التونسية خاصة في ظل تعالي عديد الأصوات في الآونة الأخيرة التي تطالب بإصلاح المنظومة التربوية ككل والمنظومة البحثية بشكل خاص. وليس إصلاح مناهج تدريس القانون سوى لبنة أولى على هذا الدرب.
[1] لا نتحدث هنا عن الطرق والوسائل البيداغوجية في إيصال المعلومة والتي قد تختلف باختلاف قابلية الفهم والاستيعاب وهذه الطرق والوسائل تختلف داخل نفس منهج التدريس ذاته.
[2] رغم ما تحتله مسالة التربّصات (les stages) من أهمية في تدريس القانون والإعداد لممارسته فإنها لا تلقي الاهتمام الكافي من كل أطراف منظومة التدريس والبحث. ويواجه الطلبة (سواء المتخرجين أو الذين لا يزالون على مقاعد الجامعة) إشكالين رئيسيين. الأول هو صعوبة الحصول على تربص(ففي حالات كثيرة يترك الطلبة دون أي دعم من الكلية في رحلة مضنية للظفر بتربص في إحدى المؤسسات) والثاني هو تحول التربص إن وجد لفرصة لاستغلال الطالب بطرق شتى. ولابد من التفكير هنا في ميثاق أو مدونة سلوك تنظم التربصات تقوم أولا ب”مأسستها” بحيث تصبح جزءا قائم الذات من تكوين الطالب وتلعب الكلية في ذلك دورا أساسيا في تسهيل الحصول على فرص تربصات لطلبتها وكذلك تبين بوضوح واجبات كل طرف وحقوقه.