أزمة التعليم العالي في تونس : تصادم لا بد منه

مقدمة لا بد منها:

تحتل الإشكاليات التي يعاني منها قطاع التعليم عموما أعلى سلم النقاش العام في تونس هذه الفترة ولعل ذلك مرتبط أساس الارتباط بإعلان الدولة التونسية ممثلة في مؤسساتها الرسمية عزمها الأخلاقي على الإصلاح وإدخال التحويرات اللازمة بعد إقرارها في عدة مناسبات فشل المقاربة التعليمية المنتهجة منذ سنوات.

إعلان النوايا هذا لم يقترن أولا ببرنامج عملي لترجمة الالتزامات المبدئية التي تم التعهد بها إضافة إلى إصرار غير مفهوم ثانيا على الملامسة المسطحة لغالبية القضايا الملحة والاكتفاء بطرحها بطريقة فولكلورية تجعلنا نتساءل حول جدية المؤسسات المعنية بالتعليم على الذهاب في مسار الإصلاح بل والجزم أخيرا أن طرحها لا يتجاوز الشعارات التي ترفع في كل مناسبة لتأثيثها.

أما فيما يتعلق بمنظومة التعليم العالي فالإصلاح فيها غير مطروح وهذا نستشفه من خلال متابعة مختلف تصريحات القائمين على هذا المرفق العام ورغم أن الجميع يقر في كل مناسبة أن النظام الذي تم إقراره سنة 2006 في إطار برنامج الإصلاح الشامل للتعليم العالي قد فشل فشلا لا مثيل له على جميع الأصعدة لكن في الآن ذاته لم نسمع أيا من هذه الأصوات تدعو صريحا لتعويض هذه المنظومة أو كحد أدنى إصلاحها جزئيا.

وفي ظل هذا الصمت المريب على واقع التعليم العالي يبقى الطالب التونسي “الحلقة الأضعف” في هذه المنظومة هو الصوت الوحيد الذي يقر أن نظام “إمد” فشل ويجب تعويضه نظرا لانعكاسه المباشر على مساره الدراسي من ناحية التكوين ومن ناحية تأهيله لدخول سوق الشغل. قلنا أن أصوات غالبية الطلبة تعالت منذ السنوات الأولى لبداية تطبيق منظومة “إمد” بضرورة التراجع عنها   وتعويضها و لكن السلطة في ذلك الوقت لم تكن قادرة على استيعاب كم المخاطر والإستتباعات التي ستطرح في الحقل الجامعي وهناك رأي آخر يؤكد أن السلطة ذهبت في تطبيق هذه المنظومة ضاربة بعرض الحائط كل الأصوات المعارضة حتى من جسم الأساتذة الجامعيين الذين أكدوا على كارثية منظومة ”إمد” وهذا الرأي الثاني أقرب إلى الواقع.

في ظل وضعية الترقب تعمل المؤسسات المعنية بالتعليم العالي في كل مرة على امتصاص الغضب الذي يصدر عن الطلبة بعد كل قرار يتم اتخاذه دون أن تتوفر رؤية واضحة لفهم الأسباب الحقيقية وراء الاحتجاجات المتواصلة لعموم الطلبة التونسيين والعمل على معالجتها وأحيانا تذهب بعيدا في اتجاه إصدار قرارات أحادية الجانب دون العودة إلى مجالس الجامعات والمجالس العلمية للكليات والمعاهد العليا وخاصة للطلبة المعنيين المباشرين بكل هذه القرارات، هذا الشكل السلطوي في تنظيم التعليم العالي وغياب قنوات التواصل عمق المسافة بين الطالب التونسي والسلط المعنية وزاد الوضعية تأزما خاصة مع غياب أي تصور أو برنامج عملي للتجاوز وإيجاد حلول للإشكاليات المطروحة.

في هذا الإطار يتنزل الأمر الحكومي عدد 345 لسنة 2017 المؤرخ في 09 مارس 2017 المنقح للأمر عدد 1290 لسنة 1999 المؤرخ في 07 جوان 1999 المتعلق بتنظيم المعهد الأعلى للقضاء وضبط نظام الدراسات والامتحانات والنظام الداخلي، الذي صدر دون سابق إنذار ونزل نزول الصاعقة على عموم طلبة الحقوق والعلوم القانونية لما تضمنه من تنقيحات عمقت المسافة التي كنا أشرنا لها سابقا وزادت درجة الاحتقان في صفوف الطلبة.

من الناحية الشكلية، يمكن التأكيد في البداية أنه تم إصدار الأمر المذكور دون الرجوع للهياكل المعنية والتشاور معها نظرا لحساسية المسألة وتأثيرها المباشر على سير مرفق القضاء بماهو سلطة، هذا التمشي الأحادي الجانب ساهم بشكل مباشر في توسع دائرة الاحتجاج في صفوف طلبة الحقوق والعلوم القانونية وأدى إلى إعلان إضرابات مفتوحة عن الدراسة إلى حين التراجع عن هذا الأمر.

من ناحية ما احتواه الأمر الحكومي، تم إلغاء الفصل 04 من الأمر عدد 1290 لسنة 1999 المتعلق بضبط شروط الواجب توفرها في المترشحين لمناظرة الملحقين القضائيين وتعويضه بفصل جديد رفع في الشهادة العلمية المشترطة للترشح لتصبح شهادة الماجستير في الحقوق أو العلوم القانونية في حين أن النسخة السابقة من الأمر تشترط الأستاذية فحسب ( وقياسا على ذلك الإجازة )، هذا الترفيع تم تبريره من قبل وزير العدل في جلسات التفاوض التي جمعته بممثلين عن الطلبة المحتجين بالرغبة في تحسين المستوى العلمي للقضاء المستقبليين والارتقاء بجهاز القضاء العدلي وتحقيق المساواة في الولوج بين القضاء العدلي، المالي و الإداري.

ما قدمه وزير العدل من حجج لتبرير إصدار هذا الأمر و خاصة الرغبة في الارتقاء بالمستوى العلمي و كفاءة القضاة المستقبليين يبدو في ظاهره هدفا نبيلا ولا يختلف اثنان أن القضاء بما هو سلطة يعاني من إشكالات جمة ومن بينها ضعف تكوين القضاة، لكن هذه الحجة قابلة للدحض والتنسيب نظرا لتوفر حلول بديلة قادرة على الارتقاء بمستوى الدارسين بالمعهد الأعلى للقضاء فمن ناحية أولى يمكن إعادة النظر في امتحان الولوج للمعهد بإضافة امتحان الأسئلة متعددة الاختيارات ومن ناحية أخرى تحسين التكوين في المعهد و إدخال تحويرات على برامج التكوين والمواد التي يتم تدريسها، إلى جانب عدة حلول مقترحة بديلة لكن السيد الوزير ورئاسة الحكومة اختاروا المرور إلى الحلول السهلة التي لا تكلفهم شيئا ولكنها في الآن ذاته ستقصي آلاف المجازين في الحقوق أو العلوم القانونية من اجتياز المناظرة وتحقيق أحلامهم التي من أجلها اختاروا التخصص في الحقوق دون أن ننسى طبعا الطلبة المتحصلين على شهادة الأستاذية.

إن الأسباب المباشرة التي تم تقديمها كمبررات لاتخاذ هذا الأمر تخفي أسبابا أكثر عمقا تتمثل أساسا في الإقرار الضمني من قبل الحكومة أن منظومة التعليم العالي “إمد” قد فشلت تماما في تحقيق النتائج المرجوة منها منذ بداية تطبيقها في السنة الجامعية 2006 / 2007 وهو ما أثر على مسار تكوين الطالب التونسي وعطل إدماجه في الحياة المهنية.

هذا الإقرار بالفشل لم يتم إتباعه بإجراءات عملية للإصلاح أو إيجاد حلول بديلة حقيقية لمعالجة الإشكالات المطروحة في جوهرها بل اكتفت مختلف السلط المعنية بإصدار قرارت اعتباطية وأحادية الجانب تلامس الإشكاليات دون أن تعالجها بل وتزيد في تعميقها من خلال دفع الطلبة إلى المجهول والطريقة الفوقية في التعامل مع هذه الوضعية ستزيد في تعميق الأزمة وستدفع بالطلبة إلى التصادم الذي لا بد منه مع السلط التي لا تحرك ساكنا لتلافي الوضع الكارثي في قطاع التعليم العالي.

حتى نلخص، الأمر الحكومي الصادر في 09 مارس 2017 طرح في عمقه الإشكال الجوهري وهو منظومة إمد وكل القرارت الصادرة والتي ستصدر في المستقبل ماهي إلا تمظهر لفشل هذه المنظومة وبالتالي فالتفاعل مع هذا الأمر وكل القرارت التي ستصدر يستمد مشروعيته بالنسبة للطلبة والأساتذة المعنيين أيضا بذلك بالسعي إلى دفع السلط المعنية إلى اتخاذ إجراءات واضحة وصريحة تضع حدا نهائيا لأصل كل الإشكاليات.

إن أزمة التعليم العالي وتبعاتها على قطاع الحقوق والعلوم القانونية لن تقود إلى التهدئة فالرؤية غير واضحة والبطالة تتعمق في صفوفهم ومثل هذه القرارت المنفردة دون تشريك أو استشارة والتي تمس من الحقوق المكتسبة ستساهم في مزيد تعميق المسافة بين طلبة الحقوق والسلط المعنية التي تواصل سياسة الهروب إلى الأمام.

بالتزامن مع كتابة هذه الأسطر و بعد التحركات الاحتجاجية التي قادها طلبة الحقوق و العلوم القانونية في مختلف الكليات والمعاهد العليا تم التراجع من قبل رئاسة الحكومة على تطبيق هذا الأمر و حصر تطبيقه على الطلبة المرسمين في السنة الجامعية 2017 / 2018 دون غيرهم وهذا يدل مرة أخرى على اعتباطية في التعاطي مع المسألة و عدم توفر رغبة في معالجة الإشكالات في جوهرها بل الاكتفاء باتخاذ قرارات تخضع للتعديل الشكلي حسب وتيرة الرفض أو الاحتجاج و هو تصرف لا يعبر عن الانسجام المحمول على السلطات وسيزيد تعميق و توسيع دائرة الاحتجاج لتشمل قطاعات تعليم جامعي أخرى.