في عبثية الدكتوراه في تونس

روي عن أبي هريرة في سنن الترمذي ” مَن خَرَجَ في طَلَبِ العِلمِ فهو في سَبِيلِ اللهِ حتى يَرجِعَ” . في تونس، طالب  الدكتوراه الذي يخرج لطلب العلم و تحصيله يمكن أن يرجع كما يمكن له للأسف أن لا يرجع

أمام ضيق الفرص التشغيلية و ضعف عددها مقارنة مع الحجم المتفاقم لحاملي الشهائد، فانّ الطالب التونسي لم يعد يكتفي اليوم بمجرّد تحصيل الأستاذية سابقا و الاجازة حاليا، و لم يعد يرضى حتّى بالماجستير ليواصل رحلة بحثه عن العلم و تحصيله من خلال اعداد رسالة للدكتوراه رغبة منه في تدعيم حظوظه و تعزيز مقدرته التنافسية ضمن سوق الشغل

فان كان قرار اعداد رسالة الدكتوراه يجب أن ينمّ عن اختيار واع و مسؤول نابع عن طالب قرّر نذر حياته للبحث والإنتاج العلمي، فانّه تحول في تونس و في جميع الاختصاصات إلى أمر مفروض  في غياب بدائل أخرى

و هو ما يجعل وجود الدكتوراه يسبق ماهيتها اذا استعرنا الحقل السيمنطيقي (الدلالي) للفلسفة الوجودية، فالطالب يرمى به في مرحلة الدكتوراه ثم يجد نفسه فيما بعد في صراع عسير لتحديد الموضوع و  العثور على الأستاذ المؤطر و البحث المضني عن المراجع

و تصطدم إرادة طالب الدكتوراه في محاولته لإعطاء معنى لوجوده بجملة من العوائق و العراقيل العديدة. فالمنحة السنوية التي تقدم اليه هي منحة شحيحة لا تمكّنه حتّى من تلبية أبسط متطلبات عيشه،ناهيك عن أن المحسوبية و الفساد يصبحان العاملان الحاسمان للحصول على هذه المنحة التي لا تسمن و لا تغني من بحث علمي

و لا تختلف الوضعية العلمية عن الوضعية المادية، فالعديد من طلبة الدكتوراه يعملون في غياب أيّ تأطير علمي و أكاديمي. فالترسيم في مرحلة الدكتوراه لا يمكّن دائما من الالتحاق بمخبر أو بوحدة بحث إمّا لغياب مخبر يتماهى مع اختصاص الطالب أو لأن ّ الالتحاق بهذا المخبر في حاجة الى تزكية أو مباركة او “تدخل” من هذا الأستاذ أو ذاك

و حتى إن أنصف القدر الطالب و تمكن من الولوج الى أحد المخابر، فإنّه يفاجأ بضعف هيكلته واعتباطية طريقة العمل داخله و طغيان الحسابات الضيقة و الاعتبارات الذاتية والانطباعية على حساب الاعتبارات العلمية و الموضوعية والأكاديمية

كما يعاني طالب الدكتوراه من نقص و شحّ في المراجع.فأغلب المراجع الأساسية تكون غير متوفرة أو قديمة غير محينة. و يصبح الأمر أكثر صعوبة في غياب أي تأطير من قبل الأعوان المكلفين بالاشراف على المكتبات ذلك لعدم تخصصهم و عدم قدرتهم على تقديم الإضافة المرجوة الى جانب حالة الفوضى التي تسود عادة داخل المكتبات و الفضاءات المخصصة للبحث

بطبيعة الحال، مثل هذه الاستنتاجات لا يجب أن تعمّم، فلحسن الحظ مازالت هناك وحدات ومخابر بحث جدية و أساتذة مؤطرين أكفاء و أعوان مكتبة مختصين. لكن لا بدّ من دق ناقوس الخطر قصد الإصلاح و النهوض بمنظومة البحث

أول خطوة للإصلاح تمرّ عبر وضع معايير أكثر جدية و أكثر صرامة للموافقة على المواضيع المقترحة لقبول الطالب في مرحلة الدكتوراه لإيقاف التضخم غير الطبيعي لعدد الطلبة المرسمين بمرحلة الدكتوراه خاصة اذا ما قمنا بمقارنة هذا العدد بما هو موجود في الدول المتقدمة التي يكون فيها عدد الطلبة المسجلين بالدكتوراه أقل بكثير

يجب أن يكون الطالب قادرا على الإضافة الفعلية في مجال البحث و التدريس فيما بعد لا مجرّد شخص يرى في الدكتوراه مرحلة وقتية ريثما يحصل على وظيفة قارة حتّى و إن كان لا علاقة لها بالبحث العلمي. بعبارة أخرى، يجب قلب المعادلة، يجب على هوية الاطروحة أن تسبق وجودها حتى نتجنب العبثية و الرحلة العسيرة و الطويلة التي يخوضها الطالب للبحث عن المعنى

ثانيا، يجب تحسين نوعية المراجع المتوفرة و خاصة وضع معايير موضوعية منها خاصة شرط التخصص لانتداب الأعوان المشرفين على المكتبات

باتت الإصلاحات ملحة لعقلنة مرحلة الدكتوراه و تنظيمها تنظيما دقيقا يبوئها المكانة الهامة التي تستحقها و يضع حدا للاعتباطية و العبثية. فالعبثية و الفشل في تحديد معنى للوجود لا يمكن ان يِؤدي إلاّ إلى الانتحار كما بيّن ذلك الفيلسوف و الكاتب الوجودي الفرنسي البار كامو. و لا نتصور أنّنا نريد لطلبتنا في الدكتوراه مثل هذه النهاية التراجيدية